آخر الأخبار
1

الجمعة، 24 يوليو 2015

«محمد نجيب».. رئيس لايعرفه المصريون



هذا الرجل ظلم حيًّا وميّتًا، وكانت كل جريمته، أنه اختلف مع ثوار يوليو من أجل الديمقراطية فشطبوا اسمه من كتب التاريخ، رغم أنه أول رئيس للجمهورية؛ فهو الذي حمل رأسه على كفيه ليقود ويتصدر تنظيم "الضباط الأحرار"، صباح يوم 23 يوليو 1952م. فما لا يعرفه الكثيرون أن محمد نجيب، كان أول رئيس لمصر في عهد الجمهورية، بعد إسقاط حكم أسرة محمد علي، بعدما اختاره "الضباط الأحرار"، ليكون قائدًا للثورة؛ حتى يتحقق لها النجاح والشرعية في الأوساط الشعبية والعسكرية. فقد كان لنجيب شخصيته وشعبيته المحببة للشعب المصري، حتى قبل قيامه بقيادة الثورة، إذ كان من أعلام العسكرية المصرية وقتذاك، وحصل على نجمة فؤاد الأول مرتين لبسالته، وشارك في الحرب ضد القوات الألمانية في عام 1943م، كما حارب في فلسطين 1948م ونال شرف الإصابة فيها 3 مرات، وحصل على رتبة لواء أركان حرب.   وقد رشح وزيرًا للحربية في وزارة نجيب الهلالي، لكن القصر الملكي، عارض ذلك بسبب شخصيته المحبوبة لدى ضباط الجيش، وبعد أيام من انتخابه رئيسًا لنادي الضباط في يوليو 1952م، قامت الثورة على حكم الملك فاروق، وحاصرت قوات الجيش قصر عابدين. ولم تكد تمر أيام حتى أجبر رجال الثورة، الملك فاروق على مغادرة مصر، والتفت الجموع حول محمد نجيب، الذي أعلن أن الجيش سيؤدي ما عليه، ويرجع ثانية للثكنات، تاركًا الحكم لأُولِي الأمر، مما أضفي للثورة مصداقية وحقق لها النجاح عند قطاع عريض من طوائف الشعب المصري. ليشكل محمد نجيب في 7 سبتمبر 1952م، أول حكومة للثورة، قبل أن يعلن في 18 يونيو 1953م، تحول مصر لنظام جمهوري، وليصبح هو أول مصري يتولى حكم بلاد في تاريخها الحديث وتولي رئاسة الجمهورية، إلى جانب رئاسته الوزراء. لكن نجيب لم يستمر في منصبه سوى شهور، بعد أن قرر مجلس قيادة الثورة في فبراير 1954م، عزله من رئاسة الجمهورية، لأول مرة مما أثار سلاح الفرسان وبقية الجيش وطالبوا بعودته، فعاد ثانية بعد أسبوع من عزله. وفي 17 إبريل من العام ذاته، تولى جمال عبد الناصر رئاسة مجلس الوزراء، واقتصر محمد نجيب على رئاسة الجمهورية، حتى وقعت حادثة المنشية المزعومة، عندما ادعت قيادة الثورة تعرُّض عبد الناصر لمحاولة اغتيال، على يد أحد أعضاء جماعة "الإخوان المسلمين"، وهو يخطب في ميدان المنشية بالإسكندرية، في 26 أكتوبر 1954م. فقد زعمت التحقيقات أن نجيب كان على اتصال بالإخوان، وأنه كان معتزمًا تأييدهم إذا ما نجحوا في قلب نظام الحكم، ليقرر مجلس قيادة الثورة في 14 نوفمبر 1954م، إعفاء محمد نجيب من جميع مناصبه. وتم وضعه تحت الإقامة الجبرية دون أي تهمة، في قصر مهجور في ضاحية المرج المنعزلة وقتها، مع منعه تمامًا من الخروج أو مقابلة أي شخص من خارج أسرته، حتى إنه ظل لسنوات عديدة يغسل ملابسه بنفسه، حتى سمح له بخادم عجوز يرعاه. ولم يجد أول رئيس جمهورية مصري من سلوى إلا تربية القطط والكلاب، طيلة 30 عامًا هي فترة إقامته الجبرية، فقد ظل حبيسًا في مكان إقامته حتى عام 1982م، إلى أن نقل إلى شقة أكثر ضعة لحين وفاته في 28 أغسطس 1984م. يقول الكاتب عادل حمودة، إن كشف حساب محمد نجيب في البنك بعد أقل من شهرين على إقالته يكشف أن رصيده لم يزد عن 899 جنيها وبضعة مليمات. وكانت ميزانية بيته في شهر إبريل عام 1957م، تؤكد أنه كان ينفق 120 جنيها بخلاف مصاريف تعليم أولاده ونفقات علاجه وعلاج زوجته، وكان ذلك كله أكبر من معاشه الذي كان لا يزيد عن 183 جنيهًا. وكان راتبه وهو رئيس جمهورية في حدود 6 آلاف جنيه، وقد تنازل عن نصفه في خطاب وجهه إلى وزير المالية.. كما سبق أن تنازل عن رتبة الفريق -  وهي رتبة منحته مرتب وزير -  وقد صدر بها أمر ملكي من مجلس الوصاية على العرش بعد الثورة مباشرة، يوم 24 يوليو 1952م. ولأنه تنازل عن نصف راتبه فقد انخفض معاشه إلى النصف، وكان هذا المعاش هو كل دخله تقريبًا، وقد زاد معاشه 100 جنيه بعد قرار الرئيس أنور السادات بإلغاء قرار تحديد إقامته عام 1971م. وقد دفعته الضائقة المالية إلى أن يكتب إلى وزير المالية، طالبًا منه استبدال جزء من معاشه، مثله مثل صغار الموظفين في مصر. ودفع نجيب أسرته ثمن غضب رجال الثورة عليه، إلى حد مثير للحزن والأسى، فبعد تحديد إقامته بعامين، عاد ابنه الأكبر فاروق من المدرسة ليسأله والدموع في عينيه: "أبي ألم تكن في يوم من الأيام رئيسا للجمهورية؟".. وتعجب نجيب لكنه ابتسم وداعبه وقال له: "نعم يا بني.. لكن لماذا تسأل هذا السؤال؟.. هذا تاريخ مضى وانقضى". وفوجئ نجيب بابنه وهو يقدم له كتابًا مدرسيًا قائلاً: "إن كتاب التاريخ الذي وزعوه علينا اليوم فيه أن جمال عبد الناصر هو أول رئيس جمهورية.. لقد شطبوا اسمك من التاريخ.. وتعاملوا معك كأنك لم توجد.. ولم تولد.. تعاملوا معك كأنك كذبة أو خرافة أو شائعة". وحاول نجيب تفسير ما حدث، لكن ابنه دخل في أزمة نفسية حادة جعلته لا يقدر على مواصلة دراسته في مصر، وسافر إلى ألمانيا ليحصل على شهادة جامعية من هناك، لكن نفسية الابن تحطمت تمامًا بسبب الظروف التي أحاطت بوالده، فلم يفلح في الحصول على الشهادة التي سافر لأجلها إلى الخارج. وبعد عودته إلى القاهرة، غرق فاروق – الذي كان والده يصفه في إحدى خطاباته له بالاستقامة والتدين - في الخمر التي ألقت عليه بمصائب لم يحتملها، فقد اتهم بمعاداة النظام، بعد أن افتعل معه أحد أفراد الشرطة مشاجرة، إثر خروجه من أحد البارات. ليزَجَّ به في السجن ويبقى فيه خمسة شهور ونصف الشهر، تعرض خلالها لأقسى ألوان التعذيب النفسي والجسدي، ثم خرج ليموت بعد شهور كمدًا وقهرًا، إثر إصابته بأزمة قلبية، وكان ذلك في عام 1969م. ليلحق فاروق أخيه الأوسط علي الذي يصر محمد نجيب أنه قتل في ألمانيا في عام 1968م، إذ كان يقوم أثناء دراسته بألمانيا، بنشاط مهم في الدفاع عن القضية العربية وعن مصر ضد من يهاجمونها، وكان له نشاط واسع ضد اليهود في جامعته، وكان يقيم المؤتمرات السياسية التي يدافع فيها عن بلاده وثورتها وحق الفلسطينيين في العودة إلى بلادهم. وينقل عادل حمودة عن نجيب قوله: إن هذا النشاط لم يكن يعجب رجال صلاح نصر (رئيس المخابرات المصرية الأسبق)، إذ اعتبروا ما يفعل إحياء لذكرى أبيه.. وفي ليلة ما كان يوصل أحد زملائه بعد أن انتهيا من استذكار دروسهما فإذا بسيارة جيب بها ثلاثة رجال وامرأة تهجم عليه وتحاول قتله. وعندما هرب اندفعت السيارة ورائه حتى حشرته بينها وبين حائط، ونزل الرجال الثلاثة من السيارة وأشبعوه ضربًا حتى خارت قواه ونزف حتى الموت، ورشوا عليه زجاجات نبيذ حتى لا يقترب أحد منه وينقذه.. كأنه يرقد من كثافة الخمر لا شدة الضرب.. وتمدد علي غارقًا في دمائه على الأرض دون أن يفكر أحد في إنقاذه.. ونقل جثمانه بالطائرة إلى القاهرة، ومُنع الأب رغم توسلاته من استقبال نعش ابنه أو الصلاة عليه!! ولم يتبق له من الدنيا سوى ابنه الأصغر يوسف، الذي تعثر في دراسته، وحصل على دبلوم أحد معاهد اللاسلكي الخاصة، ثم التحق للعمل بالحكومة في شركة النصر للإلكترونيات، لكنه تم فصله من عمله بقرار رئاسي، بعد أن تشاجر مع أحد أقارب شمس بدران (أحد رجال المخابرات في عهد عبد الناصر)، ولم يجد أمامه إلا أن يعمل سائقًا للتاكسي على سيارة أرياف بالنفر من أجل أن يعيش. وقد اشتكى ابن نجيب من ظروف وقسوة الحياة مرارًا، لدرجة أنه وجد صعوبة في الحصول على شقة مثل ملايين المصريين، بعد أن وجد نفسه مطرودًا من الفيلا التي كان يقيم بها مع والده، وهو ما جعل الرئيس الأسبق حسني مبارك يأمر بتخصيص بيت له في حي كوبري القبة. لكن يوسف توفي وترك أسرة تعاني من شظف العيش، وتشكو مرارة الحياة وقسوتها بعد وفاة عائلها، الأمر الذي دفع نجله محمد، إلى أن يرسل رسالة إلى مبارك – عبر صحيفة "الكرامة" قبل سنوات  – يطلب فيها السماح له بإقامة "كشك" لبيع السجائر، أو الحصول على إعانة حكومية تساعده في إقامة مشروع صغير، ليقتات منه هو وأخوته وأمه المسنة، خاصة وأنه كان لا يزال يدرس في إحدى كليات جامعة بورسعيد، وليس له دخل سوى معاش والده.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

جميع الحقوق محفوظة لـقهوة بلدي - كافيه شوب