“عيش، حرية، عدالة اجتماعية” هكذا هتف وردَّد المصريون في ثورة يناير 2011، جاعلين من “العيش” الكلمة الأولى في أهم شعار مَثَل طلباتهم من تلك الثورة، ويبدو أن ثورات واحتجاجات المصريين خلال كل التاريخ المصري كان وراءها وأحد مسبباتها هو ذلك “العيش”.
1- في العصر الفرعوني
“النيل كان وسوف يظل مصدر سعادة المصريين وشقائهم. فمتى فاض النيل عمت السعادة والرخاء البلاد، ومتى هبط تحل المجاعة. إنه كان بالفعل رمانة الميزان بين تقدم عصر من العصور وأفول آخر”.
وفقًا لبرديات أيبور فإن أول ثورة جياع على مستوى العالم كانت ثورة مصرية فرعونية ضد الملك “بيبي الثاني”، ذلك الملك الذي حكم مصر لأكثر من 96 عامًا، ولينتهي حكمه بتلك الثورة العظيمة، والتي برغم نجاحها إلا أنها – ووفق المؤرخين – قد خلفت فوضى استمرت أكثر من 180 سنة.
“نامي جياع الشعب نامي
حرستك آلهة الطعام
نامي فإن لم تشبعي
من يقظة، فمن المنام
نامي على زيف الوعود
يُذاق في عسل الكلام”
هكذا أرخ أيبوور في برديته ذات الـ17 صفحة لأحداث أول ثورة جياع مصرية، تلك البردية التي تم العثور عليها عام 1828، والموجودة الآن في متحف لاهاي بهولاندا. ويحكي فيها أيبوور كيف أصبحت البلاد في عهد بيبي الثاني في حالة ضعف وفوضى شاملة، “فامتلأت البلاد بالعصابات، وامتنع الناس عن الذهاب للحقول ودفع الضرائب، وتوقفت التجارة مع البلاد المحيطة، فقد هجم الناس على مخازن الحكومة واعتدوا على مقابر الموتى، وصبوا غضبهم على قصور الأغنياء، وانهارت الحكومة المركزية، وظهرت مقولات مثل “الأرض لمن يحرثها”، حتى اضطر رجال الدين ومَنْ تبقى من الأغنياء للهجرة”.
من شارك بتلك الثورة؟
يصف أيبوور المشاركة في الأحداث بأنها كانت من الجميع، فيحكي: “الحمالون رفضوا العمل، وتسلح صيادو الطيور بأسلحتهم، ولم يعد لكبار الموظفين كلمة، حتى أن الرجل صار يذهب للحرث حاملًا درعًا بدلًا من فأسه، وإن الرجل ليُذبح بجوار أخيه، فيتركه أخوه ويهرب”.
أسبابها؟
بالطبع فإن سلطات بيبي الثاني الواسعة كانت أحد الأسباب الرئيسية لتلك الثورة، كذلك زيادة نفوذ حكام الأقاليم والذين كانوا يحصلون على هبات عظيمة من بيبي الثاني من أجل ضمان ولائهم، وبالتأكيد العوامل الاقتصادية مثل تدهور التجارة ونقص مياه النيل التي سببت المجاعات.
2- في عصر البطالمة والرومان
شهد هذا العصر ثلاث ثورات للجياع
ثورة الجياع الأولى
كانت في عهد بطليموس الثالث أثناء حربه في سوريا، حيث أدت تلك الحرب إلى انهيار الاقتصاد، ومضاعفة الضرائب على المصريين، وبلغ الأمر حد المجاعة، الأمر الذي اضطر المصريين للمقاومة، فأضربوا عن العمل في الحقول والمحاجر. إلا أن بطليموس الثالث تمكن من السيطرة على الوضع، ليس فقط بالقوة المسلحة لكن بسياسات اقتصادية واجتماعية، فقد جلب القمح من فينيقيا وقبرص وسوريا، وتنازل هو والملكة والكهنة عن جزء كبير من دخلهم، وذلك وفقا للوثيقة الحجرية الموجودة بالمتحف المصري الآن.
ثورة الجياع الثانية
وقعت أحداث تلك الثورة في عهد “بطليموس الرابع” والذي واصل الحرب مع السوريين، وذلك بعدما أدخل قرابة الـ20 ألف جندي مصري في جيشه ليكونوا سببًا في نصره بعد إتقانهم فنون القتال، الأمر الذي أكسب المصريين ثقة كبيرة بأنفسهم، وجعلهم في تلك الفترة يقومون بثورات كثيرة.
ثورة الجياع في عصر الرومان
لم يختلف الرومان كثيرًا عن سابقيهم من المستعمرين والمحتلين لهذا البلد، وبذلك لم تشهد البلاد تحسنًا في أحوال المعيشة نتيجة فرض الرومان ضرائب باهظة وممارستهم شتى أنواع الظلم على الشعب المصري، تلك الدرجة التي سجلتها الوثائق بأن الرومان وصل بهم الأمر لأن ينزلوا العقاب على أقارب وجيران من فرَّ من دفع الضرائب. لكن مع الرومان لم يصل احتجاج المصريين لدرجة ثورة، لكن كانت “الهجرة”، فترك الكثير من المصريين قراهم وبيوتهم هربًا من ذلك الاستغلال.
3- المجاعات في العصر الإسلامي
أولى ثورات الجياع في هذا العصر كانت في عهد الدولة الأموية حينما أصبح عبد الله بن عبد الملك أميرًا على مصر، فيحكي المقريزي كيف أنه بدخول عبد الله بن عبد الملك مصر تشاءم الناس منه وكرهوا إمارته، وأن تلك المجاعة كان نتيجتها تغيير الكثير من الولاة، حتى أن عدد الولاة قد بلغ 5 ولاة خلال 10 سنوات فقط، وأن الأمر ظل كذلك حتى بداية الدولة العباسية.
يقول ابن المقفع المصري عن تلك المجاعة: “إن هذه الأزمة والشدة أدت إلى ارتفاع الأسعار بشكل لم تشهده مصر من زمن الفراعنة، لقد أجبرت تلك الأزمة أهل الصعيد على الهجرة للريف لطلب الغلال، فكان يموت كل يوم عدد كبير من الناس، أيضًا فقد ظهر الطاعون، ثم زاد النيل جفافًا، فزادت الأسعار، وفرض عبد الله بن عبد الملك مزيدًا من الضرائب”.
لتعم الفوضى البلاد، ويهجم المواطنون على قصر عبد الله بن عبد الملك جاعلينه يفر لأخيه في الشام.
الشدة المستنصرية
“لقد تصحرت الأرض، وأكل الناس القطط والكلاب، حتى أن بغلة وزير الخليفة قد أُكلت، وحينما علم الوزير بسرقة بغلته غضب وأعدم اللصوص الذين قاموا بسرقتها على شجرة، وعندما استيقظ الناس صباحًا وجدوا عظام اللصوص فقط. لقد هاجر الناس من مصر للشام والعراق والحجاز حتى أن أم الخليفة قد هاجرت للشام، وبيعت حارة بأكملها بطبق من الطعام فسميت بـ”حارة الطبق”، وتوقفت الصناعة ثم التجارة، وانتشرت البطالة ومن ثم السرقة” هكذا يصف المؤرخون ومنهم المقريزي الحال خلال تلك المجاعة الشديدة التي أصابت مصر.
تلك المجاعة التي جعلت المصريين يخرجون وراء سيدة تصرخ “الجوع.. الجوع” وهي حاملة لقطعة خبز تقول أنها كلفتها ألف دينار، ولتصل تلك المرأة لقصر الخليفة ووراءها الناس وتقف على مصطبة وتقول ساخرة: “يا أهل القاهرة، يا أهل القاهرة، ادعوا لمولانا المستنصر الذي أسعد الله الناس بأيامه وأعاد عليهم بركات حسن نظره، حتى تقومت هذه القرصة بألف دينار…